الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد ابن عبد الله وبعد
خلق الله الخلق لعبادته والعمل لمرضاته ورتب على أعمال العباد الثواب العظيم والأجر العميم في الآخرة قال تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فالعبد يقدم على العمل الصالح في الأصل ابتغاء ثواب الله ومرضاته وما أعده من النعيم في الآخرة. ومع ذلك فإن المدح والثناء محبب للنفس ولذلك كان مقام الإخلاص وتجريد العمل من الرياء وحظوظ النفس ومتاع الدنيا من أشق الأعمال على العامل ويحتاج إلى بذل جهد واستفراغ وسع. وقد ذم الشرع الرياء وحذر منه وبين مغبته ونتيجته السيئة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع سمع الله به ومن رائى رائى الله به) رواه مسلم.
أما إذا أخلص العبد عمله ولم يرد الدنيا بعمله ثم أثنى عليه الناس بغير تطلع منه وتشوف فهذا لا يؤثر في عمله ولا يضره وهو أمر حسن كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين سئل ف عن أبي ذرّ رضي الله عنه: قيل يا رسول الله أرأيتَ الرجلَ يعمل العمل من الخير ويحْمَدُه الناس عليه؟ فقال : (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم. وفي رواية ابن ماجه (الرجل يعمل العمل لله فيحبه الناس عليه).
والرجل المجهول هو الذي أخفى عمله عن الناس وأحب خمول الذكر ولم يتعرض لباب الشهرة ومدح الناس بل عمل في أي حقل من حقول الدين العلم أو الدعوة أو الجهاد أو الحسبة أو العمل التطوعي أو غير ذلك وكان قصده وجل همه من عمله تحقيق رضا الله والدار الآخرة وإعلاء كلمة الله ونشر دينه ولم يلتفت قلبه أبدا إلى معرفة الناس به والثناء عليه وإشهار أمره بل كانت صلته خالصة بالله ، جعل الله نصب عينيه في كلامه وسكوته وقيامه وقعوده ينأى بنفسه عن مجامع الناس وجوائزهم لا يبتغي في عمله أجرا منهم ولا شكورا ولسان حاله يقول عملت هذا العمل لله فلا أرضى بمن دونه من المخلوقين فلما كان عملي رباني فجزائي رباني.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الصنف فقال ( طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ) رواه البخاري. قال ابن حجر: "فيه ترك حب الرئاسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) رواه مسلم. وجاء في حديث معاذ (إن خير عباد الله الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يفطن لهم يخرجون من كل غبراء مظلمة) رواه ابن ماجه. وروي في الأثر : ( إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم. حوائج أحدهم تتخلخل في صدره، لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم).
وكان ابن مسعود يوصي أصحابه فيقول: " كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب . تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض". و قال رجل لبشر الحافي رحمه الله: أوصني، فقال: "أخمل ذكرك، وطيب مطعمك ". وقال الزهري رحمه الله: "ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال فإذا نوزع الرياسة حامى عليها وعادى".
والرجل المجهول له أمارات فمن وجدها في نفسه فهو منهم فهنيئا له:
1- أن يستوي في نفسه مدح الناس وذمهم له.
2- أن يقدم مصلحة المسلمين ومنفعتهم على مصلحته الخاصة.
3- أ، يكون الأصل في عمله إخفاء العمل والإسرار به.
4- أن يجتهد ويخلص في كل عمل أوكل له لا يشترط ما يوافق هواه.
5- أن يفر من الرئاسة والولاية والجاه فراره من الأسد.
6- أن يمقت نفسه في الله ولا يرى لها فضل أبدا.
7- أن يكون مسكينا متواضعا لا يحفل بصحبة الأغنياء.
8- أن يصون قلبه من الفتن ويكون مراعيا للسلامة.
وهذا المقام العظيم شديد على النفس لا يقوى عليه إلا من أخلص الله قلبه ونور بصيرته واصطفاه لعمله واستعمله في طاعته ، ولا يزال في هذه الأمة بحمد الله وجود هذا الضرب من الرجال من يعمل لهذا الدين بصمت لا يطلع عليه إلا الله.
والرجل المجهول له عمل عظيم في الأمة يعدل كثيرا من أعمال المجاهرين ، بل كثير من دعوات التجديد و الدول الإسلامية والإصلاحات العامة والأحداث الكبرى قامت على أكتاف رجال مجهولين طوى التاريخ ذكرهم ولم يحفل بهم أحد لحكمة أرادها الله ، وكثير من رجالات الإسلام وقادته وعلمائه صنعهم بإذن الله أناس مجهولون.
وقد ضرب السلف الصالح نماذج رائعة لهذا النوع من الرجال : قاتل رجل في أحد الغزوات في عهد عمر فأبلى بلاء حسنا وقتل فسأل عنه عمر فلم يعرفه فقال عمر: " ما يضره ألا يعرفه عمر ويعرفه رب عمر". وهذا أويس القرني أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم). فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس رضي الله عنه، فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم.قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس، فقال: تركته رث البيت قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويسا فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي قال لي: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه ، ثم غزا بأذربيجان، فمات بها.
ومع هذا كله فالرجل المجهول يتحرى الحكمة وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة ويتلمس حاجة الأمة فمتى ما احتاج الأمر لتصدر الناس وخلا الميدان من كفء يقوم به وليس ثمة إلا هو استعان بالله وخرج للناس وجاهر بعمله وتحرى الإخلاص والصدق مع الله كما فعل عمر ابن عبد العزيز حين أرغم على الخلافة والإمام أحمد حين احتاج الناس لفقهه وحديثه وفتاواه ، وهو مع هذا كله يراعي سلامة قلبه وصحة إخلاصه فمتى ما خشي على نفسه الفتنة والشهرة ترك هذا العمل لأن صلاح نفسه مقدم على صلاح غيره. والمهم أن هذا من مسائل الإجتهاد يتحرى فيه المؤمن الأصلح لنفسه وأمته ويوازن بين ذلك ، ولذلك اختلفت مواقف السلف وتباينت في إيثار الإختفاء عن الناس والبروز لهم. فينبغي للمؤمن أن يكون فقيها في الأحوال وصيانة القلوب. خرج ابن مسعود من منزله فتبعه جماعة فالتفت إليهم وقال: علام تتبعونى؟ فوالله لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان.وفى لفظ قال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام. وكان خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة الشهرة. وخرج أحد أئمة الحديث إلى بلد فلما بلغه في الطريق اجتماع الناس له وكثرة عددهم حول دابته إلى جهة أخرى ولم يذهب إليهم.
ولا شك أن الأمة بحاجة إلى من يبرز لها ويقوم بأعمالها من وعظ واحتساب وتعليم وغيره ، فالأمة بحاجة إلى الرجل المجهول والرجل المشهور مع ندرة الأول وصعوبته وكثرة الثاني وخطورته وفي كل خير.
فهنيئا لمن كان مجهولا عند الخلق معروفا عند الله ، من لا يأبه به الناس ولا يقيمون له وزنا وقدره عظيم عند الله ، من أوصد في وجهه أبواب الدنيا وأبواب الله مشرعة في وجهه ، من كان متواضعا في الناس شريفا عند الله.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة